إنّ
" منطق الحكم وشروطه وإشكاليّاته هي التي تتحكّم بسلوك النخب الحاكمة،
وكثير من أنظمة الحكم ذات الإيديولوجية القوميّة والوطنيّة وجدت نفسها تعمل
أداة بيد الاستعمار لتحافظ على نفسها وموقعها. وبالمقابل، ليس هناك سلطات
دوليّة تتخذ مواقفها من الحكومات العربيّة أو غير العربيّة بناءاً على
مواقف ايديولوجيّة أو أخلاقيّة أو دينيّة. إنّها مستعدّة لأن تتحالف مع كلّ
الحركات السياسيّة، الإسلاميّة والشيوعيّة والقوميّة، إذا كان ذلك في
مصلحتها، أو قبلت الأخيرة بالتخلّي عن المصالح الوطنيّة والقناعة بالقسمة
الدوليّة القائمة. فليس لديها أيّ شرط آخر، لا عقائدي ولا سياسي. "...
الأستاذ
برهان غليون.. هذا الكلام العميق، بعيد الدلالة، أنت مَن كتبه، كمفكّر
وأستاذ للفلسفة في أعرق جامعات الغرب، واستخدمته بقناعة مطلقة كبديهيّة
مسلّمة أثبتتها التجارب للرد على محاورك المفكّر سمير أمين وإفحامه ( كتاب "
حوار الدولة والدين" سمير أمين / برهان غليون، إصدار المركز الثقافي
العربي، الطبعة الأولى 1996، صفحة 62 )..
من
حقّي كقارئ متعمّق غارق حتى أذنيه في دراسة نتاجات المفكرين العرب الكبار (
وغير العرب بالطبع ) وخاصّة التنويريين منهم، بدءاً من مفكري المعتزلة
ومروراً بالأفغاني وعبده وعبد الرازق وطه حسين وخلف الله والرصافي وعبد
الكريم والدشتي والجابري والدوري وحنفي والنيهوم والجزّار والعظم وأركون
وحرب وطرابيشي وجعيط وبن نبي والعشماوي والشرفي وتلامذته وأومليل ووفيق
رؤوف وإبراهيم محمود وهاشم صالح وسمير أمين وبرهان غليون .. والقائمة
تطول..
أقول:
من حقّي وقد تكبدت معاناة قراءتكم جميعاً بصبرٍ وأناة، وأعطيت كلاًّ منكم
ما يستحقه من وقتٍ وجهد وجديّة لفهمه واستيعاب أفكاره بغية تشكيل ثقافتي
المتواضعة، أن أقف مذهولاً أمام ما سمعته منك خلال الأسبوعين الفائتين، وأن
أمارس حق الطالب في مساءلة معلّمه إن ناقض المعلّم بسلوكه ومواقفه ما
تلقّاه منه الطالب بمنتهى الصدقيّة والاقتناع.
تابعت
بشغف واهتمام مقابلتيك الأخيرتين على قناتي الجزيرة و إل بي سي، مدفوعاً
برغبتي في فهمك كمثقف كبير أولاً وكمقتحم طارئ للمجال السياسي في أكثر
مراحله حساسيّة وخطورة ثانياً، وللخلطة الجديدة بينهما ثالثا .
ولا
أخفيك أنّي دهشتُ، وأحسست بإحباطٍ كبير لما رأيتُه وسمعتُه، إن من حيث
الشكل أو من حيث المضمون، وإحباط الطالب في أستاذه لا شكّ محزنٌ وعميق.
من
حيث الشكل، وهذه ثانويّةٌ هنا من حيث الأهميّة، لم تكن موفقاً في إثبات
حضورٍ مقبول لمفكرٍ كبير وقائد مقبل، فبدوت هشّاً متردداً ضعيف الحجّة أمام
محاورَيك النابهَين، وقد أعذرُك في ذلك، إذ أدرك تماماً أنّ المثقفين على
ثلاثة أصناف، أولّهم يمتلك الفكر والبلاغة المكتوبة وأسلوب الكتابة فيبدع
فيما يكتب، لكنّه يفتقد الحضور والكاريزما والبلاغة الشفاهيّة فيعجز عن
تقديم إبداعاته قولاً، وثانيهما هو الحالة المعاكسة تماماً، وثالثهما مَن
يمتلك الاثنتين معاً، وهؤلاء قلّة.
أمّا
من حيث المضمون، وهنا الكارثة، بالنسبة لي على الأقل، فأرجو أن تتكرّم في
توضيح أيّ الموقفين تقف، أهو موقف مَن كتبَ بيقين الفيلسوف وقناعة المفكر
أنّ " ليس هناك سلطات دوليّة تتخذ مواقفها من الحكومات العربيّة أو غير
العربيّة بناءاً على مواقف ايديولوجيّة أو أخلاقيّة أو دينيّة. إنّها
مستعدّة لأن تتحالف مع كلّ الحركات السياسيّة، الإسلاميّة والشيوعيّة
والقوميّة، إذا كان ذلك في مصلحتها، أو قبلت الأخيرة بالتخلّي عن المصالح
الوطنيّة والقناعة بالقسمة الدوليّة القائمة. فليس لديها أيّ شرط آخر، لا
عقائدي ولا سياسي. أم ما خرجنا به من حصيلة مواقفك الأخيرة كما عكستها لنا
قولاً وسلوكاً؟؟ وشتّان بين الاثنين..
وحيث
ليس من حقي أن أتهمك في وطنيّتك، فلست أراك إلا تمارس اليوم عكس ما كتبت،
وضدّ ما تؤمن به، وقد أعياني البحث في عذرٍ لك، فلم أجده في النسيان، إذ لا
ينسى الفلاسفة ثوابتهم وبديهيّاتهم وأسس نظريّاتهم، ولم أجده في تقدّم
العمر، إذ يزداد المفكرون نضجاً وحكمة كلّما زادهم الدهر يوماً، كما لم
أجده في تغيّر نظرة العالم إلى سلوك السلطات الدوليّة بحيث باتت سليمةَ
النيّةٍ خيّرةً حريصةً على مصالح الشعوب وتطوّرها وتحضرّها، بحيث نسفتَ
نظريّتك من أساسها...
لم تبقِ أمامي من مبرّرٍ سوى النفعيّة والوصوليّة وشهوة المال والسلطة، وهذه لا تليق بالمفكرين والفلاسفة، سامحك الله.
يحزنني
أنّك " قبلت بالتخلّي عن المصالح الوطنيّة، وقنعت بالقسمة الدوليّة
القائمة، حيث لا شرط آخر، لا عقائدي ولا سياسي" كما تقول بالحرف.
وإذا
كنت أدّعي أنّني أكثر معارضة منك للنظام بشكله القائم اليوم، وأرسخ
تعاطفاً مع المطالب المحقة لشعبنا في بناء دولة مدنيّة ديمقراطيّة
علمانيّة، تصون كرامة مواطنيها، فإنّي أرفض أن أسلّمك قيادَ شعبٍ يستحق
قادةً أكثر مصداقيّة وأقلَ نفعية وانتهازيّة.
يمكنك أن تضلّل الجاهلين ممّن لم يقرَؤوك، أما أنا فلا..
أسفي على الفكر والثقافة، وقبل ذلك أسفي على وطني