كلما قرأت لبعض من يكتبون في صحف العرب على اختلاف ألوانها أدرك أن الثقافة العربية وثوراتها واقعة في الأسر وتعاني من غيبوبة وان زرعنا الفكري والثوري لم يمر عليه نحل ليخصبه بغبار طلع الثقافات، ولم تحركه ريح منذ قرون .. فلم يزهر ولم يثمر .. وأردد في نفسي بأسى نداء شاعر دمشقي (يابلدي الطيب ..يابلدي) .. الفقر في الثقافة جعلنا أمة يتيمة بلا ظهر ولاسند
.. لايوجد يتيم على الأرض يستحق الشفقة هذه الأيام كالمواطن العربي الذي لم تعد معاناته في جسده وفي جراحه.. وليست آلامه بسبب سياط الديكتاتوريات على أجسادنا التي قد تتعذب وتألم وتدمى ..وقد تموت..بل بسبب سياط الثورات ولهيب أكاذيبها وسطوة أدعياء الفكر والثقافة الثورية ..وتجار الكلمات..والدم..
مالدينا في جعبتنا الثورية التي سميت المجالس الانتقالية رغم التلميع والتلوين البراق هو شلة من المشعوذين المثقفين الثوريين الذين لايشبهون الا عناصر بلاكووتر الثقافة التي تحاصرنا هذه الأيام ..وهي التي تطلق النار على أرواحنا في كل مكان كما تفعل فرق الموت وقتلة وقناصو بلاكووتر
يخرج علينا مثقفو البلاكووتر في المجلس السوري الانتقالي من كل أوراق الجرائد ويتربصون بنا تحت العناوين المفخخة وهناك قناصون و"مندسون" -كما في مظاهراتهم - يدسون السم لنا والرصاص ويزرعون أصابع الديناميت في أرواحنا وفي مواقع الانترنت..وهناك مثقفون طيارون يشنون غارات جوية علينا عبر الفضاء وفضائيات ف16 وميراج الجزيرة.. وهناك فرق التمويه الفائق حتى أن أحد الطبالين شتم علنا وبغضب حكومة بريطانيا لاستصدارها قرارا بمنع توقيف مجرمي الحرب الاسرائيليين وقامت باستقبال مجرمة الحرب على غزة المطلوبة –سابقا- للقضاء البريطاني..ولكن هذا الطبال الثائر يكيل المدائح لأمير قطر الذي استقبلها مرارا..وهذا الطبال يثني على بطولة أردوغان في دعم الثوار العرب وكأن أردوغان لم يضع رادارات الاطلسي في أحضانه لحماية اسرائيل ولحماية تسيبي ليفني نفسها اذا ماأعادت اجرامها في غزة..
ماأجمل الانحناء أمام هيبة الحقيقة ..حقيقة أن ثوراتنا خاوية لأنه ليست لدينا نخب عربية مثقفة ممتدة افقيا وعموديا لتقودنا .وماتمدد افقيا وعموديا هو الجهل والطائفية واسرائيل وأميريكا وبقعة زيت واسعة طافية في ماء مجتمعاتنا من الدجالين الثوار .. بل مالدينا في جعباتنا الثورية كتّاب هم سبب مصائبنا كلها لأنهم لايقرؤون بل يكتبون ..ومن لايقرأ لن يكتب الا الخواء .. وأن أقصى مايفعله مثقفونا هو النظر الى مايقوله القطيع ليعيدوا انتاجه.. ولاأكذب عليكم أو على نفسي ان قلت ان المثقف العربي يقوده القطيع ..قطيع الغوغاء
..وليس العكس
ان الظاهرة التي تلفت نظري في ادارة المعارضة لأزمتها وتشد انتباهي كله هو هذه القدرة على اعادة انتاج الأمل من الأكاذيب .. واعادة تدوير المنتجات المستهلكة لاعادة تصنيعها واستهلاكها بطعم آخرونكهة أخرى ولكن .. يا بلدي الطيب، يابلدي ..هذه موهبة التجار وليست خلّة الثوار .. انها ميزة التاجر ونقيصة الثائر .. والثورة ان دخلت في مهارات التجارة، صارت أقرب الى الدعارة ..
ومع هذا فلن أخفي تعاطفي مع ضحايا هذه التجارة البائسة وهم بعض جمهور معارض لايملك من أمره الا أن يصدق ويطيع كالمنوم مغناطيسيا..وان أكثر مايستحق شفقتي وغصتي هم أولئك الذين لايزالون يصدقون مثقفي و ثوار المجلس الانتقالي السوري وانتصاراته القادمة الهادرة وثرثراته النظرية حتى أن أحد الكتاب وعد قراءه بأنه سيسمعهم صوت طقطقة عظام النظام وصوت ارتطامه الهائل المدوّي بالأرض خلال أيام .. لكن أكثر ماعصر قلبي عليهم هو ترديد ماصنعته لهم بيانات المجلس الانتقالي عن مفاجآت وعدتهم بها منذ الأيام الأولى للاحتجاجات ..ولم يصل منها شيء ...من الغضب التركي الى حماسة الناتو للنجدة..الى اخراج الشيطان من عقل بوتين وميدفيديف..
وأستطيع أن أفهم صدمة المعارضين اثر المعركة الفاصلة في مجلس الأمن بعد أن أقنعتهم القيادات المعارضة أن نظام الحكم السوري يعزف لحن النهاية وأن قرار الاعدام سيصدر عن مجلس الأمن .. وكان من المتوقع كأي معارضة تحترم نفسها أن تصارح جمهورها وتكاشفه بالاحباطات وبالواقع السياسي الفولاذي الذي لايمكن تخطيه ..هذا الخطاب الصريح كان سيريح جمهور المعارضة الذي سيعرف أن قياداته مخلصة له وحريصة على اطلاعه على المكاسب والخسائر بأمانة وعلى المشكلات والتشققات التي تواجه مشروع التحرير و"الثورة" ..الصراحة في هذه المواقف والاعتراف تقوية للعزيمة والهمم ..لكن قيادات المعارضات السورية اختارت اسلوبا يشبه أسلوب أطباء القرون الوسطى وهو ضرب المريض بعنف حتى يخرج منه الشيطان .. أي قالت لجمهورها اننا سنواصل الضغط على الروس والصينيين وسنضربهم ضربا مبرحا حتى يغيروا رأيهم ويخرج منهم الشيطان السوري الذي تلبّسهم!!.. وعادت الى ترويج الاوهام من أن روسيا تهدد الرئيس السوري وأنها بدأت تتغير فترقبوا ياأولي الألباب ..وكأن هذه الدول الكبرى تغير مزاجها كما تغير موزة بنت مسند مدير محطة الجزيرة وضاح خنفر..بعد كابوس ليلي يفزعها..وكما يغيّر حمد أباه من أمير الى أسير..في رحلة استجمام..
وتسارع المعارضة الى الاحتفاء بكلمة للرئيس الروسي بأن على الرئيس الأسد تسريع الاصلاح ..السذاجة هنا هي انتقاء مايناسب هوى المعارضة من الكلام الديبلوماسي الروسي الذي لم يغيره الروس منذ بداية الازمة فالروس قالوا منذ البداية: (اننا نريد رؤية اصلاحات في سوريا)، أي أنه كلام آخر لما قالته الرئاسة السورية بالضبط ..فيما الكلام الحقيقي للروس على الأرض كان بالكتابة على الحدود السورية ببطاريات صواريخ اسكندر التي ستلغي قيمة الدرع الصاروخي الأمريكي في تركيا ..والكلام الحقيقي الروسي في الديبلوماسية هو في فيتو لايقبل التأويل بأنه نهاية النقاش ..والسذاجة هنا ايضا أن نعتقد أن الأسرار العسكرية الروسية المنتشرة على الاراضي السورية سيسلمها الروس "لطراطير" المعارضة ومهرجيها ومجموعة "كشاشي الحمام" مع احترامي للحمام وكشاشيه أمام هذه المعارضة التي "تكش على جمهورها الكشات الكبيرة كما نقول في سوريا ..وأكثر المخدوعين بها هو جمهورها نفسه..الذي لايشبه الزوج المخدوع بل الزوج الغبي الذي يرى يرى رجلا في فراش زوجته التي تقنعه أنه كابوس..
فيما لايمل معارضون آخرون "انتقاليون" من اسماعنا صوت مناورات الجيش التركي وقعقعة السلاح على حدودنا ..لكن فات هؤلاء أن أردوغان قد تأخر كثيرا في التهديد (بقطع رأس القط) ليخيف الناس حوله.. ولايذكرني أردوغان الحائر الا بشخصية (بطيحان) في مسلسل بدوي قديم لاينسى عندما ادعى بطيحان أنه فارس لايشق له غبار وأن الصحراء تهتز من ذكر اسمه عندما يقتحم معركة ..ولما داهم قبيلته الغزو صاح صيحت مشهورة وقال: "اليوم يومك يابطيحان.. اليوم يومك يابطيحان" ..ثم طلب من خادمه البدوي أن يحضر له كل بنادقه ليختار أشدها فتكا..ولما حضرت البنادق جعل يمسكها واحدة بعد الأخرى ويختبر قبضتها وتسديدها وهو يغني نشيده الحماسي: اليوم يومك يابطيحان ..ومضى النهار وهو حائر في البندقية التي سيجندل بها الغزاة الى أن أطبقوا عليه...ألا تسمعون معي لحنا جديدا هو: اليوم يومك ياأردوغان..لحن يكرره منذ قافلة الحرية ..حتى اليوم ..ولم يظلمه من سماه "بالحائر الضائع"..
هنا أريد أن أتحدث لجمهور المعارضة وأنا كلي ثقة "ومعلومات" وأعدكم أنني سأكون أكثر صراحة معكم من صراحتي مع نفسي..ورغم كل التجربة السابقة والدلائل العقلية والحسية التي لم تقنعكم لم يبق الا أن أقول لكم ماقال قس بن ساعدة الايادي في خطبته الشهيرة .. (ياأيها الناس .. اسمعوا وعوا) ..عل هذا الخطاب ينفع مابقي فيكم من ثمالة العقل:
يا أيها المعارضون .. اسمعوا وعوا ..وإذا وعيتم فانتفعوا ...إن ما مات بالفيتو مات .. ومن مات فات .. وكل ما هو آت آت ..
أيها المعارضون ..هناك صمود وثبات ..وهناك مطر ونبات ..وأرزاق وأقوات ..وآباء وأمهات ...وأحياء وأموات ..جمع وأشتات وآيات ..وأرض ذات رتاج ...وبحار ذات أمواج ...اني أرى الروس يرفعون الفيتو ولا يرجعون.. أرضوا بالمقام في طرطوس فأقاموا؟..أم تركوا لدينا فناموا؟..
أقسم قسماً لا حانث فيه ولا آثماً .. إن للوطن ديناً هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه .. ونصرا قد حان حينه وأظلّنا أوانه.. فطوبى لمن آمن به فهداه.. وويل لمن خالفه وعصاه
يا معشرالمعارضين .. أين السادات وشاه ايران؟ أين من هان وخان ..وسلم أمره لحمد وأردوغان .. وحرّض العربان والامريكان ..؟ ألم يكونوا أكثر منكم أموالاً ..وأطول منكم آجالاً .. وأبعد منكم آمالاً؟؟ طحنهم الثرى بكلكله .. ومزقهم بتطاوله ..فتلك عظامهم بالية .. وبيوتهم خاوية .. عمرتها الذئاب العاوية..
كلا بل هوالوطن الواحد المعبود ليس والد ولا مولود..
***** ***** ***** ***** *****
وبهذه المناسبة سأقدم هدية الى رئيس المجلس الوطني السوري وأعضائه ..وهي عبارة عن قصيدة بيرم التونسي الشهيرة (المجلس البلدي) والتي أحسبه أراد أن يسميها (المجلس الوطني):
قد أوقع القلبَ في الأشجانِ والحَزَنِ *** هوى حبيبٍ، يُسمّى المجلس الوطني
ما شرّد النومَ عن جفني سوى *** طيف الخيال، خيال المجلس الوطني
كأنّ أمي أبلّ الله تربتها *** أوصت فقالت: أخوك المجلس الوطني
أخشى الزواج، فإنْ يومُ الزواج أتى *** أن ينبري لعروسي المجلس الوطني
وربما وهب الرحمن لي ولدًا *** في بطنها يدّعيه المجلس الوطني
يا بائع الفجل !! بالمليم واحدة *** كم للحصار؟ وكم للمجلس الوطني ؟